اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جدال أو نقاشٍ أو تنطع. ما نهى عنه ينتهي، وما أمر به يأتي منه ما استطاع، ونجد مصداق ذلك في أحداث كثيرة منها:
- عُرِض الإسلام على أبي بكر، وأن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد، وأن يخالف الناس أجمعين، ويتبع رجلا واحدا، أمر عجيب لا بد أن يلتفت إليه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَمَ(كف بعد المضي فيه) عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ.
يقين كامل أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم لا يكذب.
- حادث الإسراء:
أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا:
هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
وهذا أمر عجيب جدا، وَضَعْ نفسك مكان أبي بكر الصديق، فالمسافة بين مكة والقدس أكثر من مائة يوم للذهاب فقط، فكيف يذهب، ويعود في ليلة؟! قال:
أوَقال ذلك؟
قالوا:نعم.
فقال: لقد صدق.
دون أن يذهب إلى رسول الله ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، قال:
إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة.
ويقال إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبا بكر الصديق، والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سمى أبا بكر بالصديق.
روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحد، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال:
اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ.
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله عز وجل، قال النزال بن سبرة:
قلنا لعلي: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن أبي بكر.
قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل، وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضيه لديننا، فرضيناه لدنيانا.
ويقول الله عز وجل:
[وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {الزُّمر:33} .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
كما أننا نجد أن حياة الصديق رضي الله عنه ما هي إلا تصديق مستمرٌ متصلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- موقفه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى في منامه أنه يدخل المسجد الحرام، ويعتمر الناس، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم عقدت معاهدة بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل بن سهيل بن عمرو مباشرة بعد إتمام المعاهدة، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لما جاءه مسلما في مشهدٍ مأساوي مؤثر.
كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيرا في نفسية الصحابة بِهَمٍّ عظيم، وغَمٍّ لا يوصف، وكان من أشدهم غما وهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انظر ماذا فعل عمر على عظم قدره، وفقهه، وماذا فعل الصديق رضي اله عنهما.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغيظ يملأ قلبه فقال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله حقا؟ وهو لا يشك في ذلك قطعًا، ولكنه يبدي استغرابه مما حدث.
قال: بَلَى.
قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟
قال: بَلَى.
قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟
قال: بَلَى.
قلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
وعمر هنا ليس قليل الإيمان، بل بالعكس يريد ما هو أشق على النفس، ولا يسأل التخفيف أو التغاضي، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يوضح، ويبين لكن هنا الرسول يربي على الاستسلام دون معرفة الأسباب، ودون معرفة الحكمة، ما دام الله قد أمر.
قال: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَسْتَ أَعْصِيهِ.
قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟
قلت: لا.
قال: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.
والرسول صلى الله عليه وسلم صابر جدا في حديث عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم ويعذره، وهذه درجة عالية جدًا من درجات الإيمان وهي غليان القلب حمية للدين.
لكن تعال من الجانب الآخر وانظر إلى أبي بكر.
قلت: فأتيت أبا بكر، فقلت:
يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال:بلى.
قلت: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟
قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟
قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى حق.
هنا يغضب الرجل الرقيق؛ لأنه شعر أنه في هذه التلميحات إشارة، ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: بلى، فأخبرك إنك تأتيه العام؟
قلت: لا.